سورة الإسراء - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


لما ذكر تعالى أنه لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً بين بعد ذلك علة إهلاكهم وهي مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والتمادي على الفساد. وقال الزمخشري: {وإذا أردنا} وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إهلاكهم إلاّ قليل انتهى. فتؤول {أردنا} على معنى دنا وقت إهلاكهم وذلك على مذهب الاعتزال. وقرأ الجمهور أمرنا، وفي هذه القراءة قولان:
أحدهما: وهو الظاهر أنه من الأمر الذي هو ضد النهي، واختلف في متعلقه فذهب الأكثرون منهم ابن عباس وابن جبير إلى أن التقدير أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا. وذهب الزمخشري إلى أن التقدير أمرناهم بالفسق ففسقوا ورد على من قال أمرناهم بالطاعة فقال: أي أمرناهم بالفسق ففعلوا، والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون، فبقي أن يكون مجازاً، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خوَّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية، وآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول، وهي كلمة العذاب فدمرهم. فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نفيضه. وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض. يقال: أمرته فقام وأمرته فقرأ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به وكأنه يقول: كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول: فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهى غير قاصد إلى مفعول. فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقسط والخير دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير {ففسقوا}؟ قلت: لا يصح ذلك لأن قوله {ففسقوا} يدافعه فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه. ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه تقول: لو شاء لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك، تريد لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت: قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم يكن على سداد انتهى.
أما ما ارتكبه من المجاز وهو أن {أمرنا مترفيها} صببنا عليهم النعمة صباً فيبعد جداً. وأما قوله وأقدرهم على الخير والشر إلى آخره فمذهب الاعتزال، وقوله لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز تعليل لا يصح فيما نحن بسبيله، بل ثم ما يدل على حذفه. وقوله فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه إلى قوله علم الغيب، فنقول: حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه، ومنه ما مثل به في قوله أمرته فقام وأمرته فقرأ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضده أو نقيضه فمن ذلك قوله تعالى: {وله ما سكن في الليل والنهار} قالوا: تقديره ما سكن وما تحرك. وقوله تعالى {سرابيل تقيكم الحر} قالوا: الحر والبرد. وقول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضاً *** أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا أبتغيه *** أم الشر الذي هو يبتغيني
تقديره: أريد الخير وأجتنب الشر، وتقول: أمرته فلم يحسن فليس المعنى أمرته بعدم الإحسان فلم يحسن، بل المعنى أمرته بالإحسان فلم يحسن، وهذه الآية من هذا القبيل يستدل على حذف النقيض بإثبات نقيضه، ودلالة النقيض على النقيض كدلالة النظير على النظير، وكذلك أمرته فأساء إليّ ليس المعنى أمرته بالإساءة فأساء إليّ، إنما يفهم منه أمرته بالإحسان فأساء إليّ. وقوله ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني. نقول: بل يلزم، وقوله لأن ذلك مناف أي لأن العصيان مناف وهو كلام صحيح. وقوله: فكان المأمور به غير مدلول عليه ولا منوي هذا لا يسلم بل هو مدلول عليه ومنوي لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض كما بينا. وأما قوله: لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به هذا أيضاً لا يسلم. وقوله في جواب السؤال لأن قوله {ففسقوا} يدافعه، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه. قلنا: نعم يدعي إضمار خلافه ودل على ذلك نقيضه. وقوله: ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف. قلت: ليس نظيره لأن مفعول أمر لم يستفض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه، بل لا يكاد يستعمل مثل شاء محذوفاً مفعوله لدلالة ما بعده عليه، وأكثر استعماله مثبت المفعول لانتفاء الدلالة على حذفه. قال تعالى: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} {أمر أن لا تعبدوا إلا أيّاه} {أم تأمرهم أحلامهم بهذا} {قل أمر ربي بالقسط} {أنسجد لما تأمرنا} أي به ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة. وقال الشاعر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ***
وقال أبو عبد الله الرازي: ولقائل أن يقول كما أن قوله أمرته فعصاني يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به، أن كونه معصية ينافي كونها مأموراً بها، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق.
هذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصرّ صاحب الكشاف على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكروه، وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك عناداً وأقدموا على الفسق انتهى.
القول الثاني: أن معنى {أمرنا} كثرنا أي كثرنا {مترفيها} يقال: أمر الله القوم أي كثرهم حكاه أبو حاتم عن أبي زيد. وقال الواحدي: العرب تقول: أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم انتهى. وقال أبو علي الفارسي: الجيد في أمرنا أن يكون بمعنى كثرنا، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما جاء في الحديث: «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي كثيرة النسل، يقال: أمر الله المهرة أي كثر ولدها، ومن أنكر أمر الله القوم بمعنى كثرهم لم يلتفت إليه لثبوت ذلك لغة ويكون من باب ما لزم وعدّي بالحركة المختلفة، إذ يقال: أمر القوم كثروا وأمرهم الله كثرهم، وهو من باب المطاوعة أمرهم الله فأمروا كقولك شتر الله عينه فشترت، وجدع أنفه وثلم سنه فثلمت.
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة. {أمرنا} بكسر الميم، وحكاها النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس، وردّ الفراء هذه القراءة لا يلتفت إليه إذ نقل أنها لغة كفتح الميم ومعناها كثرنا. حكى أبو حاتم عن أبي زيد يقال: أمر الله ماله وأمره أي كثره بكسر الميم وفتحها. وقرأ عليّ بن أبي طالب، وابن أبي إسحاق، وأبو رجاء، وعيسى بن عمر، وسلام، وعبد الله بن أبي يزيد، والكلبي: آمرنا بالمد وجاء كذلك عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبي العالية، وابن هرمز، وعاصم، وابن كثير، وأبي عمرو، ونافع، وهو اختيار يعقوب ومعناه كثرنا. يقال أمر الله القوم وآمرهم فتعدى بالهمزة. وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدّي وزيد بن عليّ وأبو العالية: {أمرنا} بتشديد الميم وروي ذلك عن عليّ والحسن والباقر وعاصم وأبي عمر وعدي أمر بالتضعيف، والمعنى أيضاً كثرنا وقد يكون {أمرنا} بالتشديد بمعنى وليناهم وصيرناهم أمراء، واللازم من ذلك أمر فلان إذا صار أميراً أي ولي الأمر. وقال أبو عليّ الفارسي: لا وجه لكون {أمرنا} من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلاّ لواحد بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم، وما قاله أبو عليّ لا يلزم لأنا لا نسلم أن الأمير هو الملك بل كونه ممن يأمر ويؤتمر به، والعرب تسمي أميراً من يؤتمر به وإن لم يكن ملكاً.
ولئن سلمنا أنه أريد به الملك فلا يلزم ما قال لأن القرية إذا ملك عليها مترف ثم فسق ثم آخر ففسق ثم كذلك كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم على الآخر من ملوكهم، ورأيت في النوم أني قرأت وقرئ بحضرتي {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها} الآية بتشديد الميم. فأقول في النوم: ما أفصح هذه القراءة، والقول الذي حق عليهم هو وعيد الله الذي قاله رسولهم. وقيل: {القول} لأملان وهؤلاء في النار ولا أبالي.
والتدمير الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء. {وكم} في موضع نصب على المفعول بأهلكنا أي كثيراً من القرون {أهلكنا ومن القرون} بيان لكم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس، والقرون عاد وثمود وغيرهم ويعني بالإهلاك هنا الإهلاك بالعذاب، وفي ذلك تهديد ووعيد لمشركي مكة وقال: {من بعد نوح} ولم يقل من بعد آدم لأن نوحاً أول نبي بالغ قومه في تكذيبه، وقومه أول من حلت بهم العقوبة بالعظمى وهي الاستئصال بالطوفان. وتقدّم القول في عمر القرن و{من} الأولى للتبيين والثانية لابتداء الغاية وتعلقا بأهلكنا لاختلاف معنييهما. وقال الحوفي: {من بعد نوح} من الثانية بدل من الأولى انتهى. وهذا ليس بجيد. وقال ابن عطية: هذه الباء يعني في {وكفى بربك} إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم انتهى. و{بذنوب عباده} تنبيه على أن الذنوب هي أسباب الهلكة، و{خبيراً بصيراً} لتنبيه على أنه عالم بها فيعاقب عليها ويتعلق بذنوب بخبيراً أو ببصيراً. وقال الحوفي: تتعلق بكفى انتهى. وهذا وهم و{العاجلة} هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة، ولا بد من تقدير حذف دل عليه المقابل في قوله: {من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} فالتقدير: من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر. وقيل: المراد {من كان يريد العاجلة} بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة والذكر كما قال عليه السلام: «ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» وقال عليه الصلاة والسلام: «من طلب الدنيا بعمل الآخرة فما له في الآخرة من نصيب».
وقيل: نزلت في المنافقين وكانوا يغزون مع المسلمين للغنيمة لا للثواب، و{من} شرط وجوابه {عجلنا له فيها ما نشاء} فقيد المعجل بمشيئته أي ما يشاء تعجيله. و{لمن نريد} بدل من قوله: {له} بدل بعض من كل لأن الضمير في {له} عائد على من الشرطية، وهي في معنى الجمع، ولكن جاءت الضمائر هنا على اللفظ لا على المعنى، فقيد المعجل بإرادته فليس من يريد العاجلة يحصل له ما يريده، ألا ترى أن كثيراً من الناس يختارون الدنيا ولا يحصل لهم منها إلاّ ما قسمه الله لهم، وكثيراً منهم يتمنون النزر اليسير فلا يحصل لهم، ويجمع لهم شقاوة الدنيا وشقاوة الآخرة.
وقرأ الجمهور {ما نشاء} بالنون وروي عن نافع ما يشاء بالياء. فقيل الضمير في يشاء يعود على الله، وهو من باب الالتفات فقراءة النون والياء سواء. وقيل يجوز أن يعود على من العائد عليها الضمير في {له} وليس ذلك عاماً بل لا يكون له ما يشاء إلاّ آحاد أراد الله لهم ذلك، والظاهر أن الضمير في {لمن نريد} يقدر مع تقديره مضاف محذوف يدل عليه ما قبله، أي لمن نريد تعجيله له أي تعجيل ما نشاء. وقال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته وما قاله لا يدل عليه لفظ في الآية.
و {جعلنا} بمعنى صيرنا، والمفعول الأول {جهنم} والثاني له لأنه ينعقد منهما مبتدأ وخبر، فنقول: جهنم للكافرين كما قال هؤلاء للنار وهؤلاء للجنة و{يصلاها} حال من جهنم. وقال أبو البقاء: أو من الضمير الذي في {له}. وقال صاحب الغنيان: مفعول {جعلنا} الثاني محذوف تقديره مصيراً أو جزاءً انتهى. {مذموماً} إشارة إلى الإهانة. {مدحوراً} إشارة إلى البعد والطرد من رحمة الله {ومن أراد الآخرة} أي ثواب الآخرة بأن يؤثرها على الدنيا، ويعقد إرادته بها {وسعى} فيما كلف من الأعمال والأقوال {سعيها} أي السعي المعد للنجاة فيها. {وهو مؤمن} هو الشرط الأعظم في النجاة فلا تنفع إرادة ولا سعي إلا بحصوله. وفي الحقيقة هو الناشئ عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب، وعن بعض المتقدّمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب، وتلا هذه الآية {فأولئك} إشارة إلى من اتصف بهذه الأوصاف وراعى معنى من فلذلك كان بلفظ الجمع، والله تعالى يشكرهم على طاعتهم وهو تعالى المشكور على ما أعطى من العقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل، وهو المستحق للشكر حقيقة ومعنى شكرة تعالى المطيع الإثناء عليه وثوابه على طاعته. وانتصب {كلا} بنمد والإمداد المواصلة بالشيء، والمعنى كل واحد من الفريقين {نمد} كذا قدره الزمخشري: وأعربوا {هؤلاء} بدلاً من {كلا} ولا يصح أن يكون بدلاً من كل على تقدير كل واحد لأنه يكون إذ ذاك بدل كل من بعض، فينبغي أن يكون التقدير كل الفريقين فيكون بدل كل من كل على جهة التفصيل. والظاهر أن هذا الإمداد هو في الرزق في الدنيا وهو تأويل الحسن وقتادة، أي إن الله يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين، ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق، وإنما يقع التفاوت في الآخرة ويدل على هذا التأويل {وما كان عطاء ربك محظوراً} أي إن رزقه لا يضيق عن مؤمن ولا كافر.
وعن ابن عباس أن معنى {من عطاء ربك} من الطاعات لمريد الآخرة والمعاصي لمريد العاجلة، فيكون العطاء عبارة عما قسم الله للعبد من خير أو شر، وينبوا لفظ العطاء على الإمداد بالمعاصي.
والظاهر أن {انظر} بصرية لأن التفاوت في الدنيا مشاهد و{كيف} في موضع نصب بعد حذف حرف الجر، لأن نظر يتعدى به، فانظر هنا معلقة. ولما كان النظر مفضياً وسبباً إلى العلم جاز أن يعلق، ويجوز أن يكون {انظر} من نظر الفكر فلا كلام في تعليقه إذ هو فعل قلبي. والتفضيل هنا عبارة عن الطاعات المؤدّية إلى الجنة، والمفضل عليهم الكفار كأنه قيل: انظر في تفضيل فريق على فريق، وعلى التأويل الأول كأنه قيل في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين والكافرين، والمفضول في قوله: {أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} محذوف تقديره من درجات الدنيا ومن تفضيل الدنيا.
وروي أن قوماً من الأشراف ومن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه، فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمر: وإنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا، يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر. وقرئ أكثر بالثاء المثلثة. وقال ابن عطية: وقوله: {أكبر درجات} ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى، ولا بد {أكبر درجات} من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض، ورأى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين. وأسند الطبري في ذلك حديثاً «أن أنزل أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله الجميع فما يغبط أحد أحداً» والخطاب في {لا تجعل} للسامع غير الرسول. وقال الطبري وغيره: الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد لجميع الخلق. {فتقعد} قال الزمخشري: من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، بمعنى صارت. يعني فتصير جامعاً على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من الذل والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكاً له انتهى. وما ذهب إليه من استعمال {فتقعد} بمعنى فتصير لا يجوز عند أصحابنا، وقعد عندهم بمعنى صار مقصورة على المثل، وذهب الفراء إلى أنه يطرد جعل قعد بمعنى صار، وجعل من ذلك قول الراجز:
لا يقنع الجارية الخضاب *** ولا الوشاحان ولا الجلباب
من دون أن تلتقي الأركاب *** ويقعد الأير له لعاب
وحكى الكسائي: قعد لا يسأل حاجة إلاّ قضاها بمعنى صار، فالزمخشري أخذ في الآية بقول الفراء، والقعود هنا عبارة عن المكث أي فيمكث في الناس {مذموماً مخذولاً} كما تقول لمن سأل عن حال شخص هو قاعد في أسوأ حال، ومعناه ماكث ومقيم، وسواء كان قائماً أم جالساً، وقد يراد القعود حقيقة لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائراً متفكراً، وعبر بغالب حاله وهي القعود.
وقيل: معنى {فتقعد} فتعجز، والعرب تقول: ما أقعدك عن المكارم والذمّ هنا لا حق من الله تعالى، ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عوداً أو حجراً أفضل من نفسه ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه، والخذلان في هذا يكون بإسلام الله ولا يكفل له بنصر، والمخذول الذي لا ينصره من يحب أن ينصره. وانتصب {مذموماً مخذولاً} على الحال، وعند الفراء والزمخشري على أنه خبر لتقعد كلا لمذكرين مثنى معنى اتفاقاً مفرداً لفظاً عند البصريين على وزن فعل كمعي فلامه ألف منقلبة عن واو عند الأكثر، مثنى لفظاً عند الكوفيين، وتبعهم السهيلي فألفه للتثنية لا أصل ولامه لام محذوفة عند السهيلي ولا نص عن الكوفيين فيها، ويحتمل أن تكون موضوعة على حرفين على أصل مذهبهم، ولا تنفك عن الإضافة وإن أضيف إلى مظهر فألفه ثابتة مطلقاً في مشهور اللغات، وكنانة تجعله كمشهور المثنى أو إلى مضمر، فالمشهور قلب ألفه ياء نصباً وجراً، والذي يضاف إليه مثنى أو ما في معناه. وجاء التفريق في الشعر مضافاً فالظاهر وحفظ الكوفيون كلاي وكلاك قاما ويستعمل تابعاً توكيداً ومبتدأ ومنصوباً ومجروراً، ويخبر عنه إخبار المفرد فصيحاً، وربما وجب، وإخبار المثنى قليلاً وربما وجب.


{أف} اسم فعل بمعنى أتضجر ولم يأت اسم فعل بمعنى المضارع إلاّ قليلاً نحو: أف وأوه بمعنى أتوجع، وكان قياسه أن لا يبنى لأنه لم يقع موقع المبني. وذكر الزناتي في كتاب الحلل له: إن في أف لغات تقارب الأربعين ونحن نسردها مضبوطة كما رأيناها وهي: أف أفِ أفُ أفَّ أفِّ أفُّ أفا أفّ أفّ أفا أفٍ أفٌ أف أفء أفيّ بغير إمالة أفيّ بالإمالة المحضة أفي بالإمالة بين بين أفيْ أفوْ أفّهْ أفّهْ أفّه فهذا اثنان وعشرون مع الهمزة المضمومة إفْ أفّ إف إفٍ إفٍّ إفا إفٌّ إفُّ إفا إفيِّ بالإمالة إفيْ فهذه إحدى عشرة مع الهمزة المكسورة أفْ أفّ آفّ آفٍّ أفيّ. وذكر ابن عطية أفاه بهاء السكت وهي تمام الأربعين. النهر الزجر بصياح وإغلاظ. قال العسكريّ: وأصله الظهور، ومنه النهر والانتهار، وأنهر الدم أظهره وأساله، وانتهر الرجل أظهر له الإهانة بقبح الزجر والطرد. وقال ابن عطية: الانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ. وقال الزمخشري: النهي والنهر والنهم أخوات. التبذير الإسراف قاله أبو عبيدة يعني في النفقة، وأصله التفريق ومنه سمي البذر بذراً لأنه يفرق في المزرعة. وقال الشاعر:
ترائب يستضيء الحلي فيها *** كجمر النار بذر بالظلام
ويروى بدد أي فرق. المحسور قال الفراء: تقول العرب بعير محسور إذا انقطع سيره، وحسرت الدابة حتى انقطع سيرها، ويقال حسير فعيل بمعنى مفعول ويجمع على حسرى. قال الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها *** فبيض وأما جلدها فصليب
القسطاس بضم القاف وكسرها وبالسين الأولى والصاد. قال مؤرج السدوسي: هي الميزان بلغة الروم وتأتي أقوال المفسرين فيه. المرح شدّة الفرح، يقال: مرح يمرح مرحاً. الطول ضد القصر، ومنه الطول خلاف العرض. الحجاب ما ستر الشيء عن الوصول إليه. الرفات قال الفراء: التراب. وقيل: الذي بولغ في دقه حتى تفتت، ويقال: رفت الشيء كسره يرفته بالكسر والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء مكسر، وفعال بناء لهذا المعنى كالحطام والفتات والرضاض والدقاق.
{وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوّابين غفوراً}.
قرأ الجمهور {وقضى} فعلاً ماضياً من القضاء. وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل: وقضاء ربك مصدر {قضى} مرفوعاً على الابتداء و{أن لا تعبدوا} الخبر. وفي مصحف ابن مسعود وأصحابه وابن عباس وابن جبير والنخعي وميمون بن مهران من التوصية. وقرأ بعضهم: وأوصى من الإيصاء، وينبغي أن يحمل ذلك التفسير لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف والمتواتر هو {وقضى} وهو المستفيض عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهم في أسانيد القراء السبعة.
{وقضى} هنا قال ابن عباس والحسن وقتادة بمعنى أمر. وقال ابن مسعود وأصحابه: بمعنى وصى. وقيل: أوجب وألزم وحكم. وقيل: بمعنى أحكم. وقال ابن عطية: وأقول أن المعنى {وقضى ربك} أمره {أن لا تعبدوا إلا إياه} وليس في هذه الألفاظ إلاّ أمر بالاقتصار على عبادة الله، فذلك هو المقضي لا نفس العبادة، والمقضي هنا هو الأمر انتهى. كأنه رام أن يترك قضى على مشهور موضوعها بمعنى قدر، فجعل متعلقه الأمر بالعبادة لا العبادة لأنه لا يستقيم أن يقضي شيئاً بمعنى أن يقدر إلاّ ويقع، والذي فهم المفسرون غيره أن متعلق قضى هو {أن لا تعبدوا} وسواء كانت {أن} تفسيرية أم مصدرية. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ألزم ربك عبادته و{لا} زائدة انتهى. وهذا وهم لدخول {إلا} على مفعول {تعبدوا} فلزم أن يكون منفياً أو منهياً والخطاب بقوله {لا تعبدوا} عامّ للخلق. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون {قضى} على مشهورها في الكلام ويكون الضمير في {تعبدوا} للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة انتهى.
قال الحوفي: الباء متعلقة بقضى، ويجوز أن تكون متعلقة بفعل محذوف تقديره وأوصى {بالوالدين إحساناً} و{إحساناً} مصدر أي تحسنوا إحساناً. وقال ابن عطية: قوله {وبالوالدين إحساناً} عطف على أن الأولى أي أمر الله {أن لا تعبدوا إلا أياه} وأن تحسنوا {بالوالدين إحساناً} وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله: {وبالوالدين إحساناً} مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله، ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين. وقال الزمخشري: لا يجوز أن تتعلق الباء في {بالوالدين} بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته. وقال الواحدي في البسيط: الباء في قوله {بالوالدين} من صلة الإحسان، وقدمت عليه كما تقول: بزيد فامرر، انتهى. وأحسن وأساء يتعدى بإلى وبالباء قال تعالى: {وقد أحسن بي} وقال الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ***
وكأنه تضمن أحسن معنى لطف، فعدّي بالباء و{إحساناً} إن كان مصدراً ينحل لأن والفعل فلا يجوز تقديم متعلقه به، وإن كان بمعنى أحسنوا فيكون بدلاً من اللفظ بالفعل نحو ضربا زيداً، فيجوز تقديم معموله عليه، والذي نختاره أن تكون {أن} حرف تفسير و{لا تعبدوا} نهي و{إحساناً} مصدر بمعنى الأمر عطف ما معناه أمر على نهي كما عطف في:
يقولون لا تهلك أسى وتجملِ ***
وقد اعتنى بالأمر بالإحسان إلى الوالدين حيث قرن بقوله: {لا تعبدوا} وتقديمهما اعتناء بهما على قوله: {إحساناً} ومناسبة اقتران برّ الوالدين بإفراد الله بالعبادة من حيث إنه تعالى هو الموجد حقيقة، والوالدان وساطة في إنشائه، وهو تعالى المنعم بإيجاده ورزقه، وهما ساعيان في مصالحه.
وقال الزمخشري: {إما} هي الشرطية زيدت عليها ما توكيداً لها، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، ولو أفردت لم يصح دخولها لا تقول أن تكرمنّ زيداً يكرمك، ولكن إما تكرمنَّه انتهى. وهذا الذي ذكره مخالف لمذهب سيبويه لأن مذهبه أنه يجوز أن يجمع بين إما ونون التوكيد، وأن يأتي بأن وحدها ونون التوكيد، وأن يأتي بإما وحدها دون نون التوكيد. وقال سيبويه في هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون كما أنك إن شئت لم تجيء بما يعني مع النون وعدمها، وعندك ظرف معمول ليبلغن، ومعنى العندية هنا أنهما يكونان عنده في بيته وفي كنفه لا كافل لهما غيره لكبرهما وعجزهما، ولكونهما كلاً عليه وأحدهما فاعل {يبلغن} و{أو كلاهما} معطوف على {أحدهما}.
وقرأ الجمهور {يبلغن} بنون التوكيد الشديدة والفعل مسند إلى {أحدهما}. وروي عن ابن ذكوان بالنون الخفيفة. وقرأ الأخوان: إما يبلغان بألف التثنية ونون التوكيد المشدّدة وهي قراءة السلمي وابن وثاب وطلحة والأعمش والجحدري. فقيل الألف علامة تثنية لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث، وأحدهما فاعل و{أو كلاهما} عطف عليه، وهذا لا يجوز لأن شرط الفاعل في الفعل الذي لحقته علامة التثنية أن يكون مسند المثنى أو معرف بالعطف بالواو، ونحو قاما أخواك أو قاما زيد وعمرو على خلاف في هذا الأخير هل يجوز أو لا يجوز، والصحيح جوازه و{أحدهما} ليس مثنى ولا هو معرف بالعطف بالواو مع مفرد. وقيل: الألف ضمير الوالدين و{أحدهما} بدل من الضمير و{كلاهما} عطف على {أحدهما} والمعطوف على البدل بدل. وقال الزمخشري. فإن قلت: لو قيل إما يبلغان {كلاهما} كان {كلاهما} توكيداً لا بدلاً، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله. فإن قلت: ما ضرك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلاً وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل {كلاهما} فحسب فلما قيل {أحدهما أو كلاهما} علم أن التوكيد غير مراد فكان بدلاً مثل الأول. وقال ابن عطية: وعلى هذه القراءة الثالثة يعني يبلغانّ يكون قوله {أحدهما} بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة *** وأخرى رمى فيها الزمان فشُلَّتِ
انتهى. ويلزم من قوله أن يكون {كلاهما} معطوفاً على {أحدهما} وهو بدل، والمعطوف على البدل بدل، والبدل مشكل لأنه يلزم منه أن يكون المعطوف عليه بدلاً، وإذا جعلت {أحدهما} بدلاً من الضمير فلا يكون إلاّ بدل بعض من كل، وإذا عطفت عليه {كلاهما} فلا جائز أن يكون بدل بعض من كل، لأن {كلاهما} مرادف للضمير من حيث التثنية، فلا يكون بدل بعض من كل، ولا جائز أن يكون بدل كل من كل لأن المستفاد من الضمير التثنية وهو المستفاد من {كلاهما} فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه.
وأما قول ابن عطية وهو بدل مقسم كقول الشاعر: وكنت كذي رجلين. البيت.
فليس من بدل التقسيم لأن شرط ذلك العطف بالواو، وأيضاً فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على أحد قسميه، و{كلاهما} يصدق عليه الضمير وهو المبدل منه، فليس من المقسم. ونقل عن أبي علي أن {كلاهما} توكيد وهذا لا يتم إلاّ بأن يعرب {أحدهما} بدل بعض من كل، ويضمر بعده فعل رافع الضمير، ويكون {كلاهما} توكيداً لذلك الضمير، والتقدير أو يبلغا {كلاهما} وفيه حذف المؤكد. وقد أجازه سيبويه والخليل قال: مررت بزيد وإياي أخوه أنفسهما بالرفع والنصب، الرفع على تقديرهما صاحباي أنفسهما، والنصف على تقدير أعينهما أنفسهما، إلاّ أن المنقول عن أبي علي وابن جنيّ والأخفش قبلهما أنه لا يجوز حذف المؤكد وإقامة المؤكد مقامه، والذي نختاره أن يكون {أحدهما} بدلاً من الضمير و{كلاهما} مرفوع بفعل محذوف تقديره أو يبلغ {كلاهما} فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات، وصار المعنى أن يبلغ أحد الوالدين أو يبلغ {كلاهما} {عندك الكبر}. وجواب الشرط {فلا تقل لهما أف} وتقدم مدلول لفظ أف في المفردات واللغات التي فيها، وإذا كان قد نهى أن يستقبلهما بهذه اللفظة الدالة على الضجر والتبرم بهما فالنهي عما هو أشدّ كالشتم والضرب هو بجهة الأولى، وليست دلالة أف على أنواع الإيذاء دلالة لفظية خلافاً لمن ذهب إلى ذلك.
وقال ابن عباس: {أف} كلمة كراهة بالغ تعالى في الوصية بالوالدين، واستعمال وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال حتى لا نقول لهما عند الضجر هذه الكلمة فضلاً عما يزيد عليها. قال القرطبي: قال علماؤنا: وإنما صار قول {أف} للوالدين أردأ شيء لأن رفضهما رفض كفر النعمة، وجحد التربية، وردّ وصية الله. و{أف} كلمة منقولة لكل شيء مرفوض ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {أف لكم ولما تعبدون من دون الله} أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم انتهى. وقرأ الحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى ونافع وحفص {أف} بالكسر والتشديد مع التنوين. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر كذلك بغير تنوين. وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتحها مشدّدة من غير تنوين. وحكى هارون قراءة بالرفع والتنوين. وقرأ أبو السمال {أف} بضم الفاء من غير تنوين. وقرأ زيد بن عليّ أفاً بالنصب والتشديد والتنوين. وقرأ ابن عباس {أف} خفيفة فهذه سبع قراءات من اللغات التي حكيت في {أف}.
وقال مجاهد: إن معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول اللذين رأيا منك في حال الصغر فلا تقذِّرهما وتقول {أف} انتهى. والآية أعم من ذلك. ولما نهاه تعالى أن يقول لهما ما مدلوله أتضجر منكما ارتقى إلى النهي عما هو من حيث الوضع أشد من {أف} وهو نهرهما، وإن كان النهي عن نهرهما يدل عليه النهي عن قول {أف} لأنه إذا نهى عن الأدنى كان ذلك نهياً عن الأعلى بجهة الأولى، والمعنى ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك {وقل لهما} بدل قول أف ونهرهما {قولاً كريماً} أي جامعاً للمحاسن من البر وجودة اللفظ.
قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد اللفظ. وقيل: {قولاً كريماً} أي جميلاً كما يقتضيه حسن الأدب. وقال عمر: أن تقول يا أبتاه يا أمّاه انتهى. كما خاطب إبراهيم لأبيه يا أبت مع كفره، ولا تدعوهما بأسمائهما لأنه من الجفاء وسوء الأدب ولا بأس به في غير وجهه كما قالت عائشة نحلني أبو بكر كذا. ولما نهاه تعالى عن القول المؤذي وكان لا يستلزم ذلك الأمر بالقول الطيب أمره تعالى بأن يقول لهما القول الطيب السار الحسن، وأن يكون قوله دالاً على التعظيم لهما والتبجيل.
وقال عطاء: تتكلم معهما بشرط أن لا ترفع إليهما بصرك ولا تشد إليهما نظرك لأن ذلك ينافي القول الكريم. وقال الزجاج قولاً سهلاً سلساً لا شراسة فيه، ثم أمره تعالى بالمبالغة في التواضع معهما بقوله: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}. وقال القفال في تقريره وجهان. أحدهما: أن الطائر إذا ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، فخفض الجناح كناية عن حسن التدبير وكأنه قيل للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك. الثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه. وقال ابن عطية: استعارة أي اقطِعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر الذل هنا ولم يذكر في قوله: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} وذلك بسبب عظم الحق انتهى. وبسبب شرف المأمور فإنه لا يناسب نسبة الذل إليه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى {جناح الذل}؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن يكون المعنى واخفض لهما جناحك كما قال: {واخفض جناحك للمؤمنين} فاضافه إلى الذل أو الذل كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني: أن يجعل لذله أو لذله جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً، وللقرة زماناً مبالغة في التذلل والتواضع لهما انتهى. والمعنى أنه جعل اللين ذلاً واستعار له جناحاً ثم رشح هذا المجاز بأن أمر بخفضه. وحكي أن أبا تمام لما نظم قوله:
لا تسقني ماء الملام فإنني *** صب قد استعذبت ماء بكائيا
جاءه رجل بقصعة وقال له اعطني شيئاً من ماء الملام، فقال له: حتى تأتيني بريشة من جناح الذل.
وجناحا الإنسان جانباه، فالمعنى واخفض لهما جانبك ولا ترفعه فعل المتكبر عليهما. وقال بعض المتأخرين فأحسن:
أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى *** فلم أستطع من أرضهم طيرانا
وقرأ الجمهور {من الذل} بضم الذال. وقرأ ابن عباس وعروة بن جبير والجحدري وابن وثاب بكسر الذال وذلك على الاستعارة في الناس لأن ذلك يستعمل في الدواب في ضد الصعوبة، كما أن الذل بالضم في ضد الغير من الناس، ومن الظاهر أنها للسبب أي الحامل لك على خفض الجناح هو رحمتك لهما إذ صارا مفتقرين لك حالة الكبر كما كنت مفتقراً إليهما حالة الصغر. قال أبو البقاء: {من الرحمة} أي من أجل الرحمة، أي من أجل رفقك بهما فمن متعلقة باخفض، ويجوز أن يكون حالاً من جناح. وقال ابن عطية: من الرحمة هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً، ويصح أن يكون ذلك لابتداء الغاية انتهى. ثم أمره تعالى بأن يدعو الله بأن يرحمهما رحمته الباقية إذ رحمته عليهما لا بقاء لها. ثم نبَّه على العلة الموجبة للإحسان إليهما والبر بهما واسترحام الله لهما وهي تربيتهما له صغيراً، وتلك الحالة مما تزيده إشفاقاً ورحمة لهما إذ هي تذكير لحالة إحسانهما إليه وقت أن لا يقدر على الإحسان لنفسه. وقال قتادة: نسخ الله من هذه الآية هذا اللفظ يعني {وقل ربِّ ارحمهما} بقوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} وقيل: هي مخصوصة في حق المشركين. وقيل لا نسخ ولا تخصيص لأن له أن يدعو الله لوالديه الكافرين بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان، والظاهر أن الكاف في {كما} للتعليل أي {رب ارحمهما} لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إليّ حالة الصغر والافتقار. وقال الحوفي: الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رحمة مثل تربيتي صغيراً.
وقال أبو البقاء: {كما} نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل رحمتهما. وسرد الزمخشري وغيره أحاديث وآثاراً كثيرة في بر الوالدين يوقف عليها في كتبهم. ولما نهى تعالى عن عبادة غيره وأمر بالإحسان إلى الوالدين ولا سيما عند الكبر وكان الإنسان ربما تظاهر بعبادة وإحسان إلى والديه دون عقد ضمير على ذلك رياء وسمعة، أخبر تعالى أنه أعلم بما انطوت عليه الضمائر من دون قصد عبادة الله والبر بالوالدين. ثم قال: {إن تكونوا صالحين} أي ذوي صلاح ثم فرط منكم تقصير في عبادة أو بر وأبتم إلى الخير فإنه غفور لما فرط من هِناتكم. والظاهر أن هذا عام لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج فيه من جنى على أبويه ثم تاب من جنايته. وقال ابن جبير: هي في المبارزة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلاّ الخير.


لما أمر تعالى ببر الوالدين أمر بصلة القرابة. قال الحسن: نزلت في قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله {إمّا يبلغنّ عندك الكبر} وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه. قال نحوه ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهم. وقال عليّ بن الحسين فيها: هم قرابة الرسول عليه السلام، أمر بإعطائهم حقوقهم من بيت المال، والظاهر أن الحق هنا مجمل وأن {ذا القربى} عام في ذي القرابة فيرجع في تعيين الحق وفي تخصيص ذي القرابة إلى السنة. وعن أبي حنيفة: إن القرابة إذا كانوا محارم فقراء عاجزين عن التكسب وهو موسر حقهم أن ينفق عليهم. وعند الشافعي: ينفق على الولد والوالدين فحسب على ما تقرر في كتب الفقه. ونهى تعالى عن التبذير وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها، فنهى الله تعالى عن النفقة في غير وجوه البر وما يقرب منه تعالى. وعن ابن مسعود وابن عباس: التبذير إنفاق المال في غير حق. وقال مجاهد: لو أنفق ماله كله في حق ما كان مبذراً. وذكر الماوردي أنه الإسراف المتلف للمال، وقد احتج بهذه الآية على الحجر على المبذر، فيجب على الإمام منعه منه بالحَجْر والحيلولة بينه وبين ماله إلاّ بمقدار نفقة مثله، وأبو حنيفة لا يرى الحجر للتبذير وإن كان منهياً عنه.
وقال القرطبي: يحجر عليه إن بذله في الشهوات وخيف عليه النفاد، فإن أنفق وحفظ الأصل فليس بمبذر وإخوة الشياطين كونهم قرناءهم في الدنيا وفي النار في الآخرة، وتدل هذه الأخوة على أن التبذير هو في معصية الله أو كونهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف في الدنيا. وقرأ الحسن والضحاك إخوان الشيطان على الإفراد وكذا ثبت في مصحف أنس، وذكر كفر الشيطان لربه ليحذر ولا يطاع لأنه لا يدعو إلى خيركما قال إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير. {وإما تعرضنّ}. قيل: نزلت في ناس من مزينة استحملوا الرسول فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه». فبكوا, وقيل في بلال وصهيب وسالم وخباب: سألوه ما لا يجد فأعرض عنهم. وروي أنه عليه السلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال: «يرزقنا الله وإياكم من فضله» فالرحمة على هذا الرزق المنتظر وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وقال ابن زيد: الرحمة الأجر والثواب وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يعرض عنهم وعنه في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم، فأمره الله تعالى أن يقول لهم: {قولاً ميسوراً} يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح انتهى من كلام ابن عطية.
وقال الزمخشري: وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد {فقل لهم قولاً ميسوراً} ولا تتركهم غير مجابين إذا سألوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء، ويجوز أن يكون معنى {وإما تعرضنّ عنهم} وإن لم تنفعهم وترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك لأن من أبى أن يعطي أعرض بوجهه انتهى. والذي يظهر أنه تعالى لما أمر بإيتاء ذي القربى حقه ومن ذكر معه ونهاه عن التبذير، قال: وإن لم يكن منك إعراض عنهم فالضمير عائد عليهم، وعلل الإعراض بطلب الرحمة وهي كناية عن الرزق والتوسعة وطلب ذلك ناشئ عن فقدان ما يجود به ويؤتيه من سأله، وكأن المعنى وإن تعرض عنهم لإعسارك فوضع المسبب وهو ابتغاء الرحمة موضع السبب وهو الإعسار. وأجاز الزمخشري أن يكون {ابتغاء رحمة من ربك} علة لجواب الشرط فهو يتعلق به، وقدم عليه أي فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً رحمة لهم وتطييباً لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك، أي ابتغِ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم انتهى. وما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوز في قولك أن يقم فاضرب خالداً أن تقول: إن يقم خالداً فاضرب، وهذا منصوص عليه فإن حذفت الفاء في مثل إن يقم يضرب خالداً فمذهب سيبويه والكسائي الجواز، فتقول: إن يقم خالداً نضرب، ومذهب الفراء المنع فإن كان معمول الفعل مرفوعاً نحو إن تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعاً بيفعل، هذا وأجاز سيبويه أن يكون مرفوعاً بفعل يفسره يفعل كأنك قلت: إن تفعل يفعل زيد يفعل، ومنع ذلك الكسائي والفراء. وقال ابن جبير: الضمير في {عنهم} عائد على المشركين، والمعنى {وإما تعرضنّ عنهم} لتكذيبهم إياك ابتغاء رحمة أي نصر لك عليهم أو هداية من الله لهم، وعلى هذا القول الميسور المداراة لهم باللسان قاله أبو سليمان الدمشقي ويسر يكون لازماً ومتعدّياً فميسور من المتعدّي تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته. قال الزمخشري: يقال يسر الأمر وعسر مثل سعد ونحس فهو مفعول انتهى. ولمعنى هذه الآية أشار الشاعر في القصيدة التي تسمى باليتيمة في قوله:
ليكن لديك لسائلِ فرجٌ *** إن لم يكن فليحسن الردّ
وقال آخر
إن لم يكن ورق يوماً أجود به *** للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي *** إما نوَالي وإما حسن مردودي
{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عقنك} الآية. قيل: نزلت في إعطائه صلى الله عليه وسلم قميصه ولم يكن له غيره وبقي عرياناً. وقيل: أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وعيينة مثل ذلك، والعباس بن مرداس خمسين ثم كملها مائة فنزلت، وهذه استعارة استعير فيها المحسوس للمعقول، وذلك أن البخل معنى قائم بالإنسان يمنعه من التصرف في ماله فاستعير له الغل الذي هو ضم اليد إلى العنق فامتنع من تصرف يده وإجالتها حيث تريد، وذكر اليد لأن بها الأخذ والإعطاء، واستعير بسط اليد لإذهاب المال وذلك أن قبض اليد يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها، وطابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها، وغلها أبلغ في القبض وقد طابق بينهما أبو تمام. فقال في المعتصم:
تعوّد بسط الكف حتى لوانّه *** ثناها لقبضٍ لم تجبه أنامله
وقال الزمخشري: هذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والإقتار انتهى. والظاهر أنه مراد بالخطاب أمة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلاّ فهو صلى الله عليه وسلم كان لا يدّخر شيئاً لغد، وكذلك من كان واثقاً بالله حق الوثوق كأبي بكر حين تصدّق بجميع ماله. وقال ابن جريج وغيره: المعنى لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق {ولا تبسطها} فيما نهيتك عنه وروي عن قالون: كل البصط بالصاد فتقعد جواب للهيئتين باعتبار الحالين، فالملوم راجع لقوله: {ولا تجعل يدك}. كما قال الشاعر:
إن البخيل ملوم حيث كان *** ولكن الجواد على علاتّه هرم
والمحسور راجع لنوله {ولا تبسطها} وكأنه قيل فتلام وتحسر، ثم سلاه تعالى عما كان يلحقه من الإضافة بأن ذلك ليس بهوان منك عليه ولا لبخل به عليك، ولكن لأن بسط الرزق وتضييقه إنما ذلك بمشيئته وإرادته لما يعلم في ذلك من المصلحة لعباده، أو يكون المعنى القبض والبسط من مشيئة الله، وأما أنتم فعليكم الاقتصاد وختم ذلك بقوله {خبيراً} وهو العلم بخفيات الأمور و{بصيراً} أي بمصالح عباده حيث يبسط لقوم ويضيق على قوم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8